مقامٌ وعهد .. في وداع جدتي نورة بنت سعد الحميّد

الخميس ٨ جمادى الأولى ١٤٤٧ ه، توقف القلبُ بأمر الله، رقدت بسلامٍ بعد كفاحٍ طويل، وخَفَتَت البهجةُ وقلّ الضجيج، وتوسّدت القلوبَ غصّةُ الفراق.
تغادرُ منزلها وقد سكَنَت روحُها واطمأنّت نفسُها، تودّعُ بيتاً زرعت في أركانه الحب، وتودّعُ زوجاً كانت له العونَ والوفاء، وتودّعُ دنياً أدّت فيها ما استطاعت، ورحلت وبقي الأثرُ الجميل والدعاءُ الصادق.
كانت جدتي نورة عنواناً موجزاً لزوجةٍ صالحة، وأمٍّ ناصحة، وجدّةٍ حانية، اسمُها نورة وجوهرُها نور على نور، تُلطِّفُ الخواطر وتَحْلُمُ عند اشتدادِ المواقف، وتؤثرُ غيرها على نفسها.
دخلتْ الحياةَ ببساطةِ الأوّلين، على أميّتها صنعتْ أجيالاً، علّمتْ بالقدوةِ قبل العبارة، وربّتْ بالفعلِ قبل الكلمة؛ فكان بيتُها مدرسةً مفتوحةً.
تَدْلفُ عليها فتَفتَحُ لك ذِراعَيها، وتُمطِركَ بكرَمِها، وتَغمُركَ بدعَواتها، تستودُعها لحظاتك، وتأخذُ منها ذِكرياتك.
كان وفاؤها لزوجها مضربَ المثل، رحلتْ معه إلى أشيقِر تاركةً فلذاتِ كبدِها، وعاشتْ معه على فقدٍ وصبر، ورضيتْ أن تكونَ قُربَه دائماً؛ فالحبُّ عندها مقامٌ وعهدٌ قبل أن يكونَ كلمةً تُقال.
ذاقتْ اللوعةَ مرّاتٍ ومرّاتٍ؛ فقدتْ بدريةً ثم فقدتْ محمداً ثم فقدتْ سعداً، فصبرتْ واحتسبتْ، وما للمؤمن إذا قُبِض صفيُّه إلاَّ الجنَّة، وأيُّ حبيبٍ أصفى من ابنٍ أو بنتٍ في قلب أمٍّ؟ هكذا كانت ترجو رحمةَ ربِّها وتستودعُه أحبابَها.
يغادرها الأبناءُ والأحفادُ بعد رحلةِ صيفٍ عامرةٍ أو في ختامِ إجازةِ عيدٍ عابرةٍ، فتودِعهم بعبارتها الشهيرةِ التي لم تُفارق أُذناً ولا قلباً “الله يحجي عليكم” وهي من عباراتِ الأولينَ في وداعِ المحبينَ، فيها دعاءٌ وستْر، كمْ رافقتْنا تِلك العبارة مع كل وداعٍ؟ وكم كانت دمعتُها تسبقُها فتقولُ ما لا تُحسنه العبارة!
وإذا العيونُ تحدثتْ بلغاتِها
قالت مقالاً لم يَقُلْهُ خطيبُ
اتخذتْ من السماحةِ منهجَ حياةٍ، ومن العطفِ لسانًا دائماً، تُهوِّنُ الصَّعب، وتغمرُ الصغارَ قبل الكبارِ بودٍّ لا يَفْتر.
تبكي الخادمةُ فتجدُ أماً حانية، وتحتاج الفقيرة فتجد يداً راعية، ويأوي إليها الطِفلُ فيجدُ حِضناً دافئاً، بمسحةِ يدٍ تُطفئُ قلقاً، وبنظرةِ رضاً تُقيمُ قلباً.
كانت واصلةً للرحم، تتفقدُ البعيدةَ والقريبة، والجارةَ والصديقة، تُعيدُ وصلَ ما قطعتْهُ الأيّام، فلا يضيعُ عندها هاتفٌ بلا ردّ، ولا حاجةٌ بلا بذل.
كان لعمّتي سارة منها وُدٌّ خاص، كانت جارتَها وأنيسَها في غُربة القرية، يتزاورانِ ويستأنسُ بعضُهما ببعض، سبقتها سارةُ إلى الرحيل، فانطفأتْ شمعةُ الأُنسِ في أيّامها، ولم يبقَ إلا الدعاءُ يملأُ ما خلّفه الغياب.
يغيبُ الجسدُ وتبقى السيرة؛ يرحلُ الصوتُ وتظلُّ الذاكرة، تغيبُ جدتي لكنَّ حِلمَها يُربّينا، وأناتُها تُهذّبُ خُطانا، ودعاؤُها يسبِقُنا إلى الغيب.
أعوامُ وصلٍ كادَ يُنسي طولُها
ذِكرَ النوى فكأنها أيامُ
رحمَ الله تجاعيدًا تسكنها الطيبة، ورحمَ الله حِضنًا كان أوسعَ من الدنيا.
اللهم اغفر لجدّتي نورة، وارفع درجتَها في المهديّين، واخلفها في الغابرين، ووسّع لها في قبرِها، ونوِّرْه عليها، واجمعنا بها في مستقرِّ رحمتك.
سبطها
محمد بن إبراهيم السماعيل
الخميس
٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٧ ه
١٣ نوفمبر ٢٠٢٥ م





